وكالة أنباء الحوزة - حين نقرأ تاريخ اليهود نشعر كأننا أمام جماعة من البدو لا تكف عن الرحيل، ولا تعرف معنى للوطن والاجتماع الإنساني بالتالي، والأخوة البشرية، والتمدن، والسلام، وأنا هنا، وفي مقالاتي السابقة واللاحقة في هذا الموضوع أقول اليهود ولا أعمم، فأنا أعرف كما نعرف جميعا أن في اليهود جماعات تدافع عن حقوق الفلسطينيين، وعن حقوق الإنسان، وتخجل مما تفعله حكومات إسرائيل، ومن يقفون وراءهم في أوروبا وأمريكا، ولكن اليهود ورثوا تاريخا لم يستطيعوا به حتى الآن أن يتخلصوا من بداوتهم وعنصريتهم ورفضهم للاندماج في المجتمعات التي عاشوا فيها، وتعرضهم بالتالي للمحن التي عاشوها وحملوها معهم إلى فلسطين يصنعون في شعبها ما صنعه فيهم هتلر وأمثاله، وفي هذا كله يواصلون سيرتهم الأولى، ويتصرفون، كما يتصرف البدو مع أنفسهم ومع غيرهم.
إنهم لا ينتسبون لوطن، بل ينتسبون لأجدادهم القدماء وأساطيرهم الموروثة، وهذا ظاهر في الأسماء التي عرفوا بها، فهم جماعة من الجماعات العبرانية التي يفسر المؤرخون اسمها هذا، فيقولون إنه من الفعل الذي يدل على العبور أو على هجرة قامت بها هذه الجماعات في بداية تاريخها وعبرت فيها أرضا أو نهرا.
وهناك من يرى أن هذا الاسم ـ عبراني ـ مأخوذ من الاسم الذي عرفهم به المصريون القدماء، وهو «خابيرو» الذي استخدم فيما ذكر عنهم في ألواح «تل العمارنة» التي تعود إلى القرن الثاني عشر قبل الميلاد عن قبائل تحمل هذا الاسم، وكانت تنتقل في المنطقة التي تضم شرق مصر وأرض كنعان ـ جنوب فلسطين ـ خلال هذا التاريخ الذي سبق ذكره.
ونحن نعرف أن اليهود عاشوا في مصر عدة قرون ثم رحلوا مع موسى عليه السلام إلى فلسطين التي كانت عامرة بالكنعانيين والفلسطينين وغيرهم، ونجحوا ـ أي اليهود ـ في تأسيس مملكتين لم تعمرا طويلا، ولم يتمكنوا في وجودهما أن يستوطنوا فلسطين، فأخذوا يرحلون من جديد حتى لم يبق لهم وجود فيها، وهذا أمر غريب، لأن رحيلهم بهذه الصورة دليل على أن وجودهم في فلسطين الذي استمر قرونا كان وجودا سطحيا لم يمكنهم من الاستقرار فيها حتى في الوقت الذي كانت لهم فيها دولة، وظلوا يعيشون في الهامش على حين واصل الكنعانيون والفلسطينيون والعرب من بعدهم حياتهم في فلسطين التي صارت وطنا لهم، وظلت ذريتهم تعيش فيها إلى الآن وتنتمي لها، فهم فلسطينيون، على حين ظل اليهود ينتمون لأسلافهم ويتسمون باسمهم، فهم يهود وإسرائيليون، وهم بعد هذا ينتمون لعقيدتهم الدينية التي سموها باسمهم واعتبروها ملكية خاصة لا تشاركهم فيها جماعة أخرى، وهكذا عاشوا كل تاريخهم الذي حولوه إلى زمان بلا مكان أو جعلوه بادية زمانية مترامية الأطراف ظلوا يرحلون فيها ويتنقلون من مكان إلى مكان آخر، ومن هنا تلك الأسطورة التي تتحدث عن اليهودي التائه.
> > >
تقول هذه الأسطورة إن الماشيح ـ أي المسيح ـ عطش وهو على الصليب، فطلب من شخص يهودي مر به جرعة ماء يروي بها عطشه، فسخر منه هذا الشخص، ولم يسعفه بجرعة الماء التي طلبها فحلت عليه لعنة أفقدته الوعي الذي يعرف به نفسه ومكانه، وجعلته تائها لا يدري من أين أتى ولا أين يذهب، وهكذا يظل يعيش هائما على وجهه طوال العصور التي ستمر حتى يعود المسيح، وقد صدق الأوروبيون هذه الأسطورة التي انتشرت في العصور الوسطى ووجدت من يؤكدون أنهم رأوا اليهودي التائه يظهر، ويختفي في أماكن متفرقة.
> > >
والواقع أن هذه الأسطورة ترجمة صحيحة لتاريخ اليهود الذين تملى عليهم عقيدتهم أن يعتزلوا الآخرين ويرفضوا الاندماج معهم في البلاد التي رحلوا إليها بعد خروجهم من فلسطين قبيل ميلاد المسيح، وبعد ميلاده، وظلوا في هذه البلاد غرباء منعزلين لا يكفون عن الرحيل والتنقل من بلد لبلد ويقيمون إذا أقاموا في تلك الأحياء المغلقة التي تسمى «الجيتو» أو «حارة اليهود» كما كنا نسميه.
وقد ظهر «الجيتو» أول ما ظهر في مدينة البندقية في إيطاليا في القرن السادس عشر ليفصل بين اليهود، وبين أهل المدينة الذين لم يكونوا مرحبين بوجود اليهود في بلادهم، كما لم يكن اليهود مستعدين للاندماج فيهم، وفي غيرهم من المجتمعات التي عاشوا فيها، بل كانوا حريصين أشد الحرص على أن ينفصلوا ويتميزوا في كل شيء، في لغتهم ومظهرهم، وفي طعامهم وشرابهم، وفي أعيادهم ومواسمهم التي يحتفلون فيها وحدهم كأن الآخرين غير موجودين أو غير جديرين بأن يتواصلوا معهم ويندمجوا فيهم، لأنهم أجانب أو «أغيار» لا يتساوون مع اليهود شعب الله المختار كما يرون أنفسهم، وتلك هي الثقافة التي صنعت تاريخ اليهود الحافل بصور العنف والاضطهاد التي كان يمكنهم أن يضعوا حدا لها بالاندماج في المجتمعات التي عاشوا فيها، لكنهم حولوا الاضطهاد الذي تعرضوا له إلى حجة لاغتصاب فلسطين، واضطهاد شعبها، وهذا هو ما تفعله الآن إسرائيل التي لم تكن إلا مستعمرة غربية قطعت الطريق على النهضة العربية و«جيتو» في صورة دولة يواصل فيها اليهود حياتهم التي لم يستطيعوا حتى الآن أن يكونوا جماعة وطنية مستقرة، لأنهم قادمون من ألفي عام كانوا فيها أشتاتا متفرقين في أنحاء العالم يتكلمون لغات مختلفة، ويتبعون في معتقداتهم الدينية مذاهب شتى، ويخلطون بين السياسة والدين وبين الحقائق والأساطير، ويعيشون في المنطقة العربية باعتبارهم غزاة محتلين لا يملكون لفرض وجودهم أو لحراسته إلا أسلحة الأمريكان، وأموال الأمريكان، و«فيتو» الأمريكان الذين يعتقدون أن ما صنعه اليهود في فلسطين شبيه بما سبق أن صنعوه هم في أمريكا، لكن هذه خرافة أخرى تضاف إلى بقية الخرافات التي تجمع بين الأمريكان والإسرائيليين، وهذا ما يدركه العقلاء من هؤلاء وهؤلاء ويعرفون أن العالم يتغير، ويتطور، ويراجع نفسه، ويصحح أخطاءه، ولهذا يطالبون بحل عادل يعيد للفلسطينيين حقوقهم ويعوضهم عما فقدوه، ويسمح للإسرائيليين بأن يندمجوا في المنطقة، وإلا فسوف تلفظهم المنطقة، كما لفظت غيرهم من قبل!
الكاتب: أحمد عبدالمعطي حجازي
المصدر: الأهرام